فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: {فاختلط} على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدئ {بِهِ نَبَاتُ الأرض} على الابتداء والخبر. والضمير في {به} على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية.
قال الشيخ: الوقف على قوله: {فاختلط} لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد.
قوله: {مِمَّا يَأْكُلُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ باختلط وبه قال الحوفي.
والثاني: أنه حالٌ من النبات وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائنًا أو مستقرًا ممَّا يأكل. ولو قيل {مِنْ} لبيان الجنس لجاز. وقوله: {حتى} غايةٌ فلابد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها وهو اختلط لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.
فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في {فاختلط} بمعنى: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت.
و{إذا} بعد {حتى} هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.
قوله: {وازينت} قرأ الجمهور {ازَّيَّنَتْ} بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ {وتَزَيَّنت} فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زايًا وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار {ازَّيَّنت} كما ترى، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله تعالى: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72].
وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش {وتَزَيَّنَتْ} على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار إليه.
وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: وأَزْيَنَتْ على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنى صار ذا كذا كأَحُصَدَ الزرعُ وأَغَدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفًا فيقال: أَزَانَتْ، كأَنَابت فَتُعَلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفًا كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذًا كقولِه: أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: {استحوذ} [المجادلة: 19] وقياسُه استحاذَ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النهدي وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة {وازْيَأَنَّتْ} بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة، بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة.
قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة {الضألّين} و{جَأَنْ}. وعليه قولهم: احمأرَّت بالهمز وأنشد:
........................ ** إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ

وقد تقدم لك هذا مشبعًا في أواخر الفاتحة.
وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: {وازْيأنَّتْ} بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرئ {وازَّايَنَتْ} والأصلُ: تزاينت فأدغم.
وقوله: {أَهْلُهَا}، أي: أهل نباتها. و{أتاها} هو جوابُ {إذا} فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ.
و{ليلًا ونهارًا} ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.
قوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالًا مِنْ مفعول جَعَلْناها الأول، وأن تكون مستأنفةً جوابًا لسؤال مقدر.
وقرأ مروان ابن الحكم {تتغَنَّ} بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشى:
........................ ** طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ

وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف.
وقرأ الحسن وقتادة {كأن لم يَغْنَ} بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجه:
أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور. وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافًا، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
و{بالأمس} المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك، فهو كقول زهير:
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ** ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ

لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أن الذي يراد به قبل يومِك مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف.
وقوله: {كذلك نُفَصِّلُ} نعت مصدر محذوف، أي: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ}
شَبّهَ الحياةَ الدنيا بالماء المُنَزَّلِ من السماء يَنْبُتُ به النباتُ وتَخْضَرُّ الأرضُ وتَظْهَرُ الثمار، ويوطِّن أربابُها عليها نفوسَهم فتصيبهم جائحةٌ سماوية بغتةً، وتصير كأن لم تكن.
كذلك الإنسانُ بعد كمال سنَّه وتمام قُوَّتِه واستجماع الخصال المحمودة فيه تخْتَرمُه المَنِيَّة، وكذلك أموره المنتظمةُ تبطل وتختلُّ لوفاته، كما قيل:
فَقَدْنَاه لمَّا تمَّ واختمَّ بالعُلَى ** كذاك كسوفُ البدرِ عند تمامه

ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المُنَزَّلِ من السماء أن المطرَ لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة.
ثم إن المطر إن كان لا يجئ إلا بالتقدير فقد يُسْتَسْقَى كذلك الرزق- وإنْ كان بالقسمة- فقد يُلْتَمَسُ من الله ويُسْتَعْطى.
ومنها أن الماء في موضعه سببُ حياة الناس، وفي غير موضعه سببُ خراب الموضع، كذلك المال لمستحقه سببُ سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند مَنْ لا يستحقه سبب طغيانِه، وسببُ بلاءِ مَنْ هو متصل به، كما قيل: يعمُ الله لا تُعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان، وكما قيل:
يا دولةً ليس فيها من المعالي شظيَّةْ ** زولي فما أنتِ ألا على الكرام بَلِيَّةْ

ومنها أن الماء إذا كان بمقدارٍ كان سببَ الصلاح، وإذا جاوز الحدَّ كان سببَ الخراب كذلك المال إذا كان بقَدْرِ الكفاية والكفاف فصاحبه مُنَعَّمٌ، وإذا زاد وجاوز الحدَّ أوجب الكُفران والطغيان.
ومنها أن الماءَ ما دام جاريًا كان طيبًا، فإذا طال مكثه تغيَّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبُه كان محمودًا، فإذا ادَّخَره وأمسكه كان معلولًا مذمومًا.
ومنها أن الماءً إذا كان طاهرًا كان حلالًا يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غيرَ طاهرٍ فالبعكس كذلك المال إذا كان حلالًا، وبعكسه لو كان حرامًا.
ويقال كما أن الربيعَ تتورد أشجارُه، وتظهر أنوارُه، وتخضرُّ رباعُه، وتتزين بالنبات وهاده وتِلاعه لا يُؤْمَن أَنْ تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن في الحساب. كذلك مِنَ الناسِ مَنْ تكون له أحوالٌ صافية، وأعمالٌ بشرط الخلوص زاكية؛ غصونُ أُنسِه مُتَدَلِّية، ورياضُ قربِه مونقةٌ ثم تصيبه عَيْنٌ فيذبل عودُ وِصاله، وأتنسدُّ أبوابُ عوائد إقباله، كما قيل:
عينٌ أصابَتْكَ إنّ العينَ صائبةٌ ** والعينُ تُسْرعُ أحيانًا إلى الحَسَدِ

اهـ.

.تفسير الآية رقم (25):

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيرًا منها وتنفيرًا عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابته بلا زوال، فقال تعالى عاطفًا على قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} ترغيبًا في الآخرة وحثًا عيها: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {يدعوا} أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيمًا لها وترغيبًا فيها، يعني بأناه لا عطب فيها أصلًا، والسلامة فيها دائمة، والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه.
ولما أعلم- بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله: {ويهدي من يشاء} أي بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صراط مستقيم} أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله.
وأن الكل فاعلون لما يشاء- كان موضع أن يقال: هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده؟ فقيل: لا، بل هم فريقان: {للذين أحسنوا}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}

.المسألة الأولى: في كيفية النظم:

اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة بهذه الآية.
ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد بنى دارًا ووضع مائدة وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار دار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد عليه السلام» وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين أيها الناس؛ هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام».

.المسألة الثانية: [في السبب الذي لأجله سميت الجنة دار السلام]:

لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه: الأول: أن السلام هو الله تعالى، والجنة داره.
ويجب علينا هاهنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام، وفيه وجوه: أحدها: أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال: {والله الغنى وَأَنتُمُ الفقراء} [محمد: 38] وقال: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} [فاطر: 15] وثانيها: أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلمًا.
ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالًا على الله تعالى، كان الظلم محالًا في حقه.
وثالثها: قال المبرد: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات.
فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين.
قال المبرد: وعلى هذا التقدير: السلام مصدر سلم.
القول الثاني: السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات.
فالسلام هاهنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة.
فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.
والقول الثالث: أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] والملائكة يسلمون عليهم أيضًا، قال تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23، 24] وهم أيضًا يحيي بعضهم بعضًا بالسلام قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} [يونس: 10] وأيضًا فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 90، 91].

.المسألة الثالثة: [في بيان كمال حال دار السلام]:

اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم، فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم إذا استعظم شيئًا ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء، لاسيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ونحن نذكر هاهنا كلامًا كليًا في تقرير هذا المطلوب، فنقول: الإنسان إنما يسعى في يومه لغده.
ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة.
فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة.
وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به.
أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لابد وأن ينتفع به.
وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه.
ولذلك قال عليه السلام: «من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل يا رسول الله وما هو؟ قال: «سرور يوم بتمامه» وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات.
ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خاليًا عن خلط الآفات، إلا أنه لابد وأن يكون منقطعًا.
ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها.
فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.